ربوع السودان

ربوع السودان
كنا وحتى نهاية عام 1974م نسكن (باشلاق البوليس)بحي السجانة الشهير حيث كان ابي رحمة الله عليه عسكريا (برتبة جاويش) ذو الثلاثة اشرطة وكان المبارك ابراهيم رحمة الله عليه يقدم (برنامج ربوع السودان) اسبوعيا يجول بنا في ربوع السودان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وكنا نجتمع سويا(ابي ووالدتي الحاجة امنة احمد ابشر رحمت الله عليها واخي المهندس/عبد القادر حسن البدوي رحمة الله عليه) وكنا انذاك بالمرحلة الابتدائية وكنا نستمتع باغاني ربوع السودان خلال تناولنا الشاي باللقيمات اسبوعيا وكانت والدتي لاتبخل علينا بعمل(المطبق) ايضا, وكان المبارك ابراهيم يبدأ برنامجه ثم يودعنا بمثل ما استقبلنا به مختتما بالابيات التاليه :.
ام در ياربوع سودانا ** حياك انت كل امالنا
ودعناك خلاص ياربوع ** نعود لك تاني بعد اسبوع
نلقاك فوق زحل مرفوع ** وخيراتك تفوح( نوع نوع )
وكان ابي متكئا شاخصا ببصره في عنان السماء الصافيه دون ان يدلي باي اقوال ولا ادري ماكان يجول بخاطر ابي في هذه اللحظات الا ان اغلب الظن انه كان يطرب لاغاني الربوع التي يتناولها المبارك ابراهيم
جعفر حسن بدوي (ابو عبد الوهاب).

عند ذكر برنامج فى ربوع السودان لايمكن ان ننسى البلبل الصداح صاحب الصوت العذب الجميل احمد عمر الرباطابى الذى طبع مقدمة البرنامج باغنيته الشهيره .
ولد الفنان أحمد محمد أحمد عمر بدري؛ الشهير بأحمد عمر الرباطابي في العام 1928م بقرية أم مردي منطقة الجريف غرب النيل؛ أقصى الناحية الجنوبية لقبيلة الرباطاب، وعاش طفولته بها وسط جو مشبع بالأنفاس الصوفية وسط التقابة والتكيّة والمسيد، تعلم وحفظ القرآن بالخلوة وكان صاحب صوتٍ عذب، وكان مولعاً بمدائح الشيخ ود مصطفى الذي هو أيضاً من تلك المناطق الثرية بالإبداع والمبدعين.

من هذا المناخ انطلق وبدأ نجمه في الالتماع والظهور، وبدأ يشارك بأحياء العديد من الحفلات بالقرى المجاورة، ويزور مناطق الرباطاب من أقصاها إلى أدناها، وكان عليه الرحمة فناناً عاش لفنه ..لا شيء يزحزح يقينه بالفن ولم يكن المال أولوية بالنسبة له.. تجده يغني للفقير قبل الغني، على الرغم من علاقاته الواسعة مع كافة أطياف المجتمع، تنقل مع والده في شتى أصقاع السودان ..مكث في منطقة اللعوتة بعض الوقت، وانتقل إلى بورتسودان حيث عمل بإحدى المؤسسات هناك.. وكان- عليه الرحمة- شاعراً مجيداً وملحناً بارعاً، اعتمد على شعره الرصين، وكان أول شاعر تعامل معه الرباطابي هو شاعر الحقيبة الرقم أبوصلاح بأغنية:

القمري المظلل بي ورق الأراك ***أنظر لي حبيبي وقولي متين أراك

وغنى للشاعر السر الماحي بعض الأغاني -سنعود لها لاحقاً- أما باقي الغناء فهو ملك له نصوصاً وألحاناً..

وأكثر ما يميز شعر الرباطابي سهولة المفردة التي يمكن لأي شخص عادي تذوقها والانجذاب لها فهي أشعار تخاطب الجميع؛ ولذا نجد أغانيه محفوظة لدى العامة من الناس في المنطقة.. ولا يعني هذا القول أن أغانيه دارجة صرفة؛ لا بل -بالعكس- فهي من الرصانة بمكان، أضف إلى ذلك تأثير الطبيعة فهي مزيج بين صحارى وجزر خضراء محفوفة بالنخيل والأشجار من سنط وطلح وسيسبان وموالح .. وقد وردت كثير من مظاهر الطبيعة في أغاني الرباطابي من ظباء وغزلان ..وحتى الصحراء وجدت حظها في أغانيه .. الدكتور العلامة عبدالله الطيب في أحد الليالي الثقافية في الدامر التي تحدث فيها عن التراث الفني لمنطقة الرباطاب والجعليين؛ ذكر بالاسم أغنية أحمد عمر الرباطابي

يالجدية يا الساكنة العقاب

يا أم ضميراً زي الحجاب

يا بتنا..

إنتي وين يا زينة الشباب

جسّد الرباطابي صحراء بيوضة و صيادها والظباء وهو يصف أحد حسناوات المنطقة ويقول العلامة عبدالله الطيب:" إن هذه القصيدة تذكره بأبيات ابن الجهم عندما حضر من البادية وطلب منه أن ينظم شعراً يُمجد الملك في العراق؛ فقال لهم بلغة البادية

أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخطوب..

وما كان من حاشية الملك إلا أن أغاروا عليه، إلا أن الملك ذكرهم بأن هذه أجمل ما رأى في البادية وأكثر ما رسخ في ذهنه، فخذوه إلى الرصافة لعدة أيام وتعالوا به.. فكان نفس الرجل بعد عدة أيام ينظم من بديع النظم ويقول:ـ

عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري..

والشاهد هنا أن عبدالله الطيب- عليه الرحمة- قال إن أجمل الشعر هو ما ارتبط بالطبيعة وعكس واقع الناس، وهذا ما جسده أحمد عمر الرباطابي.

ويغلب على فن الرباطاب والجعليين إيقاع الدلوكة ونوعاً ما الحقيبة.. لكن الدلوكة هي الصفة المميزة لتراث المنطقة، وإن كان في الفترة الأخيرة أخذ إيقاع الدليب يتمدد في مساحات واسعة في المنطقة ولكن يظل التراث المتوارث عبر الأجيال هو الثابت؛ وما دونه يأتي حسب تسلسله وما توارثته الأجيال هو ما تركه أحمد عمر من إيقاعات الدلوكة- التقيلة والخفيفة- وقد نهل من معين أحمد عمر فنانو المنطقةوالذي نظم في الوطن واحدة من أجمل القصائد وهي

أم در يا ربوع سودانا نحييك وانتا كل آمالنا..

في غربك عروس الرمال وفي شرقك آية جمال

جنوبك واسع مجال ويا حلاة رطبك في الشمال..

نحييك في القرى والبادية وفي كل الأراضي الهادية

في الخرطوم زهورك نادية تهواك النفوس ليك راضية

وهى المقدمه الشهيره لبرنامج من ربوع السودان